الأحد، 13 مايو 2012

الأهوار ترفض الاندثار وسكانها يتكيّفون مع النزوح الدائم بحثاً عن المياه

الجبايش /  أحمد محمد / جريدة المدى

"بيت القصب يا بيت القصب
جدار... يا جدار
أصغ أنت يا بيت القصب... يا رجل شوروباك
يا ابن أوبارو – توتو
هد بيتك وابنِ مركبا
اهجر كل ما تملك واطلب الحياة...
احمل في مركبك بذرة كل الأحياء"

أبيات من أول ملحمة مكتوبة في العالم (ملحمة كلكامش)، في الألف الثالث قبل الميلاد على أطراف الأهوار جنوب العراق، تلك المنطقة التي تمتلك إرثاً تاريخياً وحضارياً وثقافياً كبيراً، ترفض الاندثار على الرغم من تراجع مناسيب المياه.

الأهوار التي زارتها "المدى" تحاول استعادة عافيتها عبر إعلانها كأكبر محمية طبيعية في البلاد، لكن سكانها المتمسكين بنمط حياتهم ما زالوا يتنقلون في عمليات نزوح تكاد تكون مستمرة بحثاً عن الماء.
تجفيف الأهوار
يذكر الناشط البيئي جاسم الأسدي في حديثه لـ"المدى" أن مساحة الأهوار كانت تبلغ 9650 كيلو مترا مربعا أي ما يقارب مساحة بلد مثل لبنان، إلا أن مساحتها تقلصت بشكل كبير ومفاجئ بسبب "عمليات التجفيف المدروسة من قبل النظام المباد"، ما أدى إلى تحول أغلب أراضيها إلى صحراء وتدمير الحياة الطبيعية فيها.
وبدأت عمليات تجفيف واسعة للأهوار عام 1991 من قبل النظام المباد واستمرت لعدة سنوات، وتم ذلك من خلال بناء شبكة من السدود الترابية لتقطيع أوصالها، إضافة إلى قطع مياه الروافد المغذية لها من نهري دجلة والفرات، وإنشاء شبكة من الطرق داخل الأهوار.
وأضاف أن "تجفيف الأهوار أدى إلى انهيار كامل للاقتصاد المحلي للمنطقة، المعتمدة على المياه بالدرجة الأولى ما نتج عنه هجرة أغلب سكانها إلى مناطق أخرى، إذ "تقلص عدد سكان مدينة الجبايش من 60 ألف نسمة عام 1991 إلى ستة آلاف نسمة فقط مطلع العام 2003، ليعاود الارتفاع إلى أكثر من 62 ألف نسمة حاليا بعد عودة الأهوار".
ولأهمية مناطق الأهوار الثقافية والبيئية، اعتبرت الأمم المتحدة عمليات تجفيف الأهوار العراقية من أكبر الكوارث البيئية التي حدثت في القرن العشرين وتقارن بما جرى في البرازيل من قطع الأشجار في حوض الأمازون.
ويقول عبد غاوي الفرطوسي (65 عاما)، وهو من أقدم الصيادين في الأهوار: إن "الكثير من العشائر الساكنة في المنطقة هاجرت إلى مناطق أخرى بعد عمليات التجفيف"، وأورد مثالا عن قريته التي كانت تحتوي على 450 بيتا، لم يتبق منها سوى بضعة بيوت بسبب هجرتهم إلى مدن داخل العراق وخارجه، وبعضهم انقطعت أخباره منذ ذلك الحين.
وبين لـ"المدى" أنه ترك أهوار الجبايش بعد جفافها عام 1991 وانتقل إلى محافظة المثنى، والتي تركها هي الأخرى ليستقر في هور الدلمج بمحافظة الديوانية، ولكنه عاد إلى مسقط رأسه في الأهوار الوسطى بعد عودة المياه إليها عقب عام 2003.
عودة الأهوارويؤكد الناشط جاسم الأسدي أن عودة الأهالي مشروطة بعودة المياه إلى الأهوار، التي تذبذبت كميتها بين سنة وأخرى، إلى أن تم "بناء سد ترابي على نهر الفرات بين مدينتي الجبايش والمدينة، من قبل وزارة الموارد المائية عام 2010، ومن خلاله استطاعت رفع منسوب مياه الفرات من (0.58 إلى 1.32) متر فوق مستوى سطح البحر"، وبذلك أمكن انسيابها إلى الأهوار بسهولة.
وأضاف "الأهواريون متمسكون بثقافتهم وبيئتهم ولا يستطيعون تركها بأي شكل من الأشكال"، لأنها سبب الرئيسي في معيشتهم وطريقة حياتهم، المعتمدة على صيد الأسماك وتربية الجاموس.
معاهدة دولية للأراضي الرطبة
ويتعرض العراق لمخاطر التصحر بسبب موجات الجفاف الناتجة عن قلة الحصة المائية لنهري دجلة والفرات بعد بناء عدة سدود عليها من قبل دول الجوار، على الرغم من وجود اتفاقيات ومعاهدات دولية تنظم ذلك، مثل معاهدة (رامسار) للأراضي الرطبة، والتي انطلقت عام 1971 في إيران وأصبحت سارية المفعول عام 1975، وتتخذ من مدينة جنيف مقرا لها، لكن انضمام العراق إليها كان متأخرا في العام 2007.
وشرح الناشط البيئي جاسم الأسدي شروط الانضمام لهذه المعاهدة مبينا "أن تلزم الدولة الراغبة في الانضمام لها اختيار موقع يعتبر من الأراضي الرطبة ووضع خطة لإدارته، وبالتعاون بين وزارتي الموارد المائية والبيئة ومنظمة (طبيعة العراق) تم اختيار هور الحويزة كموقع لهذه المعاهدة".
وتابع بالقول: إن "وزارة البيئة كلفت منظمة (طبيعة العراق) بوضع خطة لإدارة هذا الموقع"، مشيرا إلى أن الأخيرة استعانت بخبراء كنديين لهم خبرة طويلة بهذا المجال من أجل وضع هذه الخطة التي تم قبولها وقبول عضوية العراق في المعاهدة.
ومنظمة (طبيعة العراق) منظمة علمية تهتم بطبيعة وبيئة العراق وهي ممثل لمنظمات المجتمع المدني العراقية  في سكرتارية معاهدة (رامسار).
أكبر محمية طبيعية
ويعتقد الأسدي أن "عام 2012 سيشهد ولادة أكبر محمية طبيعية في العراق، وذلك في الأهوار الوسطى"، موضحا أن "السبب هو لما تحتويه هذه الأهوار من نشاط اقتصادي هائل متمثل بصيد الأسماك وتربية الجاموس وتجارة القصب والحشيش، ولكن العرقلة الإدارية هي السبب في تأخر إعلان هذا المشروع"، على حد قوله.
وتقع الأهوار الوسطى في منطقة جنوب العراق المحصورة بين نهري دجلة شرقا والفرات غربا، شمال مدينة الجبايش بينما يقع هور الحويزة شرق نهر دجلة، أما هور الحمار فيقع غرب الفرات.
وأشار الأسدي إلى التعاون المشترك القائم منذ العام 2007 وإلى الوقت الحاضر بين وزارتي الموارد المائية والبيئة بهدف دفع هذا المشروع للاكتمال وإقراره من قبل مجلس النواب والحكومة الاتحادية.
ملوحة المياهويشتكي الصياد هاشم محمد الفرطوسي (41 عاما)، والذي يعيل أسرة مكونة من 12 شخصا، من زيادة ملوحة مياه الأهوار ما أدى إلى "قلة أسماك البني والكطان والشبوط والكارب الذي يسمى محليا بـ(السمتي) الذي بدأ بالانقراض من الأهوار" بعد أن كان متوفرا فيها بكثرة سابقا.
وبالإضافة إلى ذلك اختفاء العديد من النباتات في الأهوار والتي تعيش في المياه العذبة مثل (كعيبة) و(اسير بط) وغيرها من النباتات، كما اختفى أيضاً اليوم العديد من الحيوانات والطيور مثل حيوان "كليب الماء" الذي أدرج ضمن القائمة الحمراء للحيوانات المهددة بالانقراض في العالم، والذي كتب عنه بحميمية المستكشف لكيفن ماكسويل في كتابه (القصب في مهب الريح).واشتكى الفرطوسي لـ"المدى" من نوع من الأسماك الصغيرة التي تسمى محليا (شانكة) التي يزعمون أن وزارة الزراعة قامت بنشرها في الأهوار، وتقوم بأكل بيوض الأسماك الأكبر مثل (السمتية والحمرية) ما تسبب بأضرار كبيرة في الصيد، مطالبا وزارة الزراعة بنشر بيوض الأسماك المعروفة بجدواها الاقتصادي مثل الحميري والسمتي والبني.
الزراعة تنفي
وينفي الناطق باسم وزارة الزراعة كريم التميمي الاتهامات بتكثير أسماك غير موائمة لبيئة الأهوار، وقال: إن "للوزارة خبراء وفنيين مختصين وفرقا لمتابعة ومراقبة الثروة السمكية وتطويرها، من خلال الهيئة العامة لتطوير الثروة السمكية التي قامت بإطلاق عشرات الملايين من الإصبعيات المتنوعة، لزيادة أنواع من أسماك الكارب والبني والشبوط في المسطحات المائية وخاصة في الأهوار".
وأفاد في حديثه لـ"المدى" بأن الوزارة وضعت خططا لزيادة الإنتاج السمكي بواسطة تكاثرها بطريقة الأقفاص المغلقة والعائمة".
وزاد "المؤشرات تؤكد أن الثروة السمكية بدأت تعيد نفسها من جديد ولدينا خطط لزيادة أعداد الجاموس من خلال مبادرة القروض الزراعية التي أطلقت في العام 2008، وإطلاق حملة إرشادية لأصحاب الماشية في مناطق الأهوار".
هجرة إلى حيث الماء
أستأجر صادق (28 عاما) أرضا لتربية جواميسه على أطراف هور الحمار في محافظة ذي قار بسبب جفاف وعدم عودة الأهوار في محافظته البصرة.
لكن المياه المالحة تؤثر على الجاموس الذي يشرب من هذه الماء ما يؤدي إلى تقليل كمية الحليب المنتج منها، إضافة إلى إصابتها بأمراض جلدية وكلوية خطرة مثل مرض "أبو لسين" و"أبو حنيجير".
ويقول صادق لـ"المدى": إن مناطق شاسعة من الأهوار ما زالت صحراوية وخصوصا في محافظتي ميسان والبصرة، "ما اضطر أهل تلك مناطق النزوح إلى الأهوار الوسطى بحثاً عن الماء بسبب جفاف مناطقهم"، بحسب ما ذكر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق